لقد أعجز القرآن العرب عن الإتيان بمثله، بكل ما تحمله كلمة الإعجاز من معاني التحدي والغلبة، ولو كانوا يستطيعون لفعلوا لكنهم لم يفعلوا.
نعم، القرآن مثال لعربية بلغت منتهى النقاء والصفاء والكمال والجلال، ظهرت في نظمه، وخصائص سياقه، ولفظه، وبدائعه في المقاطع والفواصل ومجارى الألفاظ ومواقعها؛ فقد كان القرآن أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا حينما أشرقت الدعوة يوم لم يكن لمحمد حَوْل ولا طَوْل، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا مَنَعة.
نعم، إن القرآن هو الحاكم على العربية والمهيمن عليها، فلقد شاء الله أن يجعل العربية لغة الوحي المنزَّل لتصبح لغة دين، ثمَّ كتب لها الحفظ والخلود بحفظ القرآن وخلوده، وحفظ القرآن ليس مهمة بشر، بل هي أمر الله وحده:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
وفي السطور التالية بيان لهذه الحقائق:
لقد نزل القرآن الكريم حجةً على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرهانًا على صدق دعوته، وقد بلغ غايةَ الفصاحة ونهايةَ البلاغة بين قوم لا يخلون في جملتهم من شاعر فحل، أو خطيب مصقع؛ ومن هنا فقد كان القرآن الكريم جامعًا لفنون البلاغة، حاويًا لأطراف البيان والفصاحة، محكمًا في نظمه، حتى إنك تحسب ألفاظه لجمالها وروعتها منقادةً لمعانيه، فإذا ما تغلغلْتَ فيه وجدت معانيه منقادةً لألفاظه، فإذا ما رجعت البصر مرةً ومرة فإنك ستظل مترددًا بين انقياد معانيه لألفاظه وانقياد ألفاظه لمعانيه؛ حتى تؤمن أخيرًا بأنك تقرأ كلامًا ليس من كلام البشر.
ولا شك أنك بهذا إنما تجدد الموقف الذي وقفه العرب أمام روعة نظمه موقفَ الإعجاب والذهول والحيرة، ولكن سوء نيتهم وخبث طويتهم قد أغلق عيونهم عن الاستجابة لهذا النور المنبثق الوضاء.
ولقد عبر غير واحد من زعمائهم عن هذا الموقف في مثل قول عتبة بن ربيعة حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة فصلت ثم عاد إلى قومه فسألوه: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: “ورائي أني سمعت قولاً ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه”.
وفي مثل قول الوليد بن المغيرة: “والله إن له لحلاوة، وإن عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لَمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه”.
والقرآن الكريم معجزٌ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تحدَّى به ولم يُعارَض، وآيات التحدي كثيرة، منها قوله تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ) (الطور:34)، فكان التحدي بجميع القرآن الكريم في هذا الزمن، فلما ظهر عجزهم عن ذلك نزل قول الله تعالى: (قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ)(هود:13)، ثم لما ظهر عجزهم عن هذا المقدار أيضًا نزل قوله تعالى: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)(البقرة:23)، حيث تحدَّاهم بمقدار سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة لزمتهم الحجة لزومًا واضحًا، وانقطعوا انقطاعًا فاضحًا، يقول الفاضل التفتازاني في شرح المقاصد:
“إن الرسول صلى الله عليه وسلم تَحدَّى بالقرآن الكريم ودعا إلى الإتيان بسورة من مثله مصاقعَ البلغاء والفصحاء من العرب وغيرهم، مع كثرتهم كثرة حصى البطحاء، وشهرتهم بغاية العصبية والحميَّة الجاهلية، وتهالكهم على اللامبالاة والمباراة وركوب الشطط في هذا الباب، فعجزوا حتى آثروا المقارعة على المعارضة، وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة، فلو قدروا على المعارضة لعارضوا، ولو عارضوا لنُقل إلينا” .
أجل، لقد سجَّل التاريخ هذا العجزَ على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن. وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أَشُدَّها؛ وتَمَّ لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.. ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب تُعرض فيها أَنْفَسُ بضائعهم، وأجْوَدُ صناعاتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها ونقدها، واختيار أحسنها والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشد التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم. وما أمرُ حسَّان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدِّب.
فما هو إلا أن جاء القرآن… وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه. وإذا الأندية قد صَفِرَت، إلا عنه. فما قدر أحدٌ منهم أن يُباريه أو يُجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى. ذلك أنه لم يسدَّ عليهم باب المعارضة بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفرادًا وجماعاتٍ، وكرَّر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم، متنزلاً معهم إلى الأخف فالأخف: فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله( )، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالمَ كلَّه بالعجز في غير مواربة فقال عز وجل:
(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (الإسراء: 88).
وقال تعالى: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (البقرة: 24).
من مقال د. محمد داوود
نعم، القرآن مثال لعربية بلغت منتهى النقاء والصفاء والكمال والجلال، ظهرت في نظمه، وخصائص سياقه، ولفظه، وبدائعه في المقاطع والفواصل ومجارى الألفاظ ومواقعها؛ فقد كان القرآن أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا حينما أشرقت الدعوة يوم لم يكن لمحمد حَوْل ولا طَوْل، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا مَنَعة.
نعم، إن القرآن هو الحاكم على العربية والمهيمن عليها، فلقد شاء الله أن يجعل العربية لغة الوحي المنزَّل لتصبح لغة دين، ثمَّ كتب لها الحفظ والخلود بحفظ القرآن وخلوده، وحفظ القرآن ليس مهمة بشر، بل هي أمر الله وحده:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
وفي السطور التالية بيان لهذه الحقائق:
لقد نزل القرآن الكريم حجةً على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرهانًا على صدق دعوته، وقد بلغ غايةَ الفصاحة ونهايةَ البلاغة بين قوم لا يخلون في جملتهم من شاعر فحل، أو خطيب مصقع؛ ومن هنا فقد كان القرآن الكريم جامعًا لفنون البلاغة، حاويًا لأطراف البيان والفصاحة، محكمًا في نظمه، حتى إنك تحسب ألفاظه لجمالها وروعتها منقادةً لمعانيه، فإذا ما تغلغلْتَ فيه وجدت معانيه منقادةً لألفاظه، فإذا ما رجعت البصر مرةً ومرة فإنك ستظل مترددًا بين انقياد معانيه لألفاظه وانقياد ألفاظه لمعانيه؛ حتى تؤمن أخيرًا بأنك تقرأ كلامًا ليس من كلام البشر.
ولا شك أنك بهذا إنما تجدد الموقف الذي وقفه العرب أمام روعة نظمه موقفَ الإعجاب والذهول والحيرة، ولكن سوء نيتهم وخبث طويتهم قد أغلق عيونهم عن الاستجابة لهذا النور المنبثق الوضاء.
ولقد عبر غير واحد من زعمائهم عن هذا الموقف في مثل قول عتبة بن ربيعة حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة فصلت ثم عاد إلى قومه فسألوه: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: “ورائي أني سمعت قولاً ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه”.
وفي مثل قول الوليد بن المغيرة: “والله إن له لحلاوة، وإن عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لَمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه”.
والقرآن الكريم معجزٌ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تحدَّى به ولم يُعارَض، وآيات التحدي كثيرة، منها قوله تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ) (الطور:34)، فكان التحدي بجميع القرآن الكريم في هذا الزمن، فلما ظهر عجزهم عن ذلك نزل قول الله تعالى: (قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ)(هود:13)، ثم لما ظهر عجزهم عن هذا المقدار أيضًا نزل قوله تعالى: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)(البقرة:23)، حيث تحدَّاهم بمقدار سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة لزمتهم الحجة لزومًا واضحًا، وانقطعوا انقطاعًا فاضحًا، يقول الفاضل التفتازاني في شرح المقاصد:
“إن الرسول صلى الله عليه وسلم تَحدَّى بالقرآن الكريم ودعا إلى الإتيان بسورة من مثله مصاقعَ البلغاء والفصحاء من العرب وغيرهم، مع كثرتهم كثرة حصى البطحاء، وشهرتهم بغاية العصبية والحميَّة الجاهلية، وتهالكهم على اللامبالاة والمباراة وركوب الشطط في هذا الباب، فعجزوا حتى آثروا المقارعة على المعارضة، وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة، فلو قدروا على المعارضة لعارضوا، ولو عارضوا لنُقل إلينا” .
أجل، لقد سجَّل التاريخ هذا العجزَ على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن. وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أَشُدَّها؛ وتَمَّ لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.. ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب تُعرض فيها أَنْفَسُ بضائعهم، وأجْوَدُ صناعاتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها ونقدها، واختيار أحسنها والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشد التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم. وما أمرُ حسَّان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدِّب.
فما هو إلا أن جاء القرآن… وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه. وإذا الأندية قد صَفِرَت، إلا عنه. فما قدر أحدٌ منهم أن يُباريه أو يُجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى. ذلك أنه لم يسدَّ عليهم باب المعارضة بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفرادًا وجماعاتٍ، وكرَّر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم، متنزلاً معهم إلى الأخف فالأخف: فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله( )، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالمَ كلَّه بالعجز في غير مواربة فقال عز وجل:
(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (الإسراء: 88).
وقال تعالى: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (البقرة: 24).
من مقال د. محمد داوود